مقدمة: نقش ولون وحكايا

من هم الأجداد؟ وما كانت نواياهم؟ هل كانوا يعون أننا سنشعر بالفقد حين تنكسر حلقات السلسلة ويختفون عنا في ضباب المستقبل؟

اختلفنا على مواضيع عديدة وجودية وثقافية ودينية في هويتنا. حتى مواعيد الصلاة ومعاني الأسماء وعروبة المعنى وأساطير المعجزات، أم معجزات أسطورية؟ اختلفنا عليها بحثًا عن أسباب تميزنا عن غيرنا واختزلنا الهوية في الحجارة والقلاع ونسينا ان الهوية لا تُختزل في شكل ولا اسم ولا حجر.

وهنا مساحة للحلم والبحث والنقاش في هويات جديدة شكلتنا الان، هويات تعبر عن وجهة نظر كاتبها فقط وعن ترف نظرته الخاصة للهوية التي قد تحمل معنى آخر لشخص بظروف مختلفة وبقعة جغرافية تختلف عنه.

بعد عدة زيارات للمتاحف وحضور عروض الأزياء المحلية نتعلم أن خلف الذكريات والصور ذاكرة وقصة انفتحت على بلاد من جبال ووديان وحقول شعير ودخن وريحان.

تلك البلاد لم تُصب بسوء أو أذى، ام قد أُصيبت به؟ تلك البلاد صمدت لأن قاطنيها صنعوا خرافاتهم كما شاءوا. وصنعوا موسيقاهم وفنونهم وملابسهم كما شاءوا.

ذلك الحرب والسلام الذي لم يُصب الحجارة بأي سوء أما العقول والحقول تغيرت وتأثرت وتطورت. لأنهم عاشوا طويلًا في تلك البلاد الجبيلة المحجوبة والوديان المعزولة. فهم أدرى بالمكان وبالزمان وقوة الأشياء حولهم وفيهم. لم يذهبوا بعيدًا عن سمائهم وأرضهم، وكانوا يعرفون شمالهم وجنوبهم وقبلتهم ونجومهم.

وقفن نساء تلك البلاد على محاصيلهم يوم الحصاد وغنوا ألحانًا يحفظونها ويرددونها كل سنة في ذلك الموسم، وكانوا لا يعرفون من الحياة إلا الحياة التي أمامهم، ولا شأن لهم بما قبلهم ومن انتصر ومن خسر. كانوا يعلقون سنابل الشعير والدخن والذرة حول بيوتهم لتجف قبل الطحن ويواجهون شتائهم بمأمن. ثم زرعوا ريحانهم وشذابهم ووزابهم ليخبؤوه في ثنايا شعر بناتهم وثنايا مرضاهم وموتاهم.

وفي كل يوم واحد يأتي لا موت فيه ولا حروب يحبون الحياة ويسمعون ثغاء ماعزهم بطرب، فتتحول تلك الطقوس الروتينية إلى فكرة خلاقة لا أعلم من ابتدأها رغم بحثي الشغوف في كتب التاريخ. تحوّلت تلك السنابل المعلقة على جدران بيت الطين والحجر إلى نقش في ملابسهم وبيوتهم، ولم تكن الزهور حولهم بلا حكاية ولم تكن الحجارة بلا روح وألوان أدخلت أصباغها في أقمشتهم. لقد اختصروا الطبيعة كلها في نقش ولون. لا شيء اعتباطيّ أو صدفة أو فكرة مستوردة.

هل كان في الطبيعة ما يكفي من المعنى ليملئوا بها ثيابهم وبيوتهم وموسيقاهم؟ وهل كان للأشجار من صوت حتى غنت لهم سر المزامير في أغصانها وتعلموا العزف والرقص على المزمار لئلا يسمع الأعداء ما فيهم من خوف وحاجة؟ ذلك التشبع بالبيئة المحيطة خلق نقوش وألوان وعادات وأصوات واستقرار وأفراح وجنائز وعشق. كان لإبداعهم سرعة تعدت الجبال إلى البحر وإلى منطقة كاملة تقع جنوب شبه الجزيرة العربية ولفنهم مسميات مميزة وللحكاية بقية.

المقال التالي: خرائط تتسع للخيال
Previous
Previous

ثوب الوداع

Next
Next

إلى الصامتين، مع التحية