العدد الثالث: دليل البلوغ الفني

دليل متشائم عن العقبات الحتمية التي نواجهها عند صناعة الفن

مدة القراءة: 6 دقائق

سيكشف الفن عيوبك

يظهر النقص في قلب كل عمل فني. مهما تفادى الفنان إظهار تأثير ما عاصره من عثرات حياتية; يجد التشويش طريقة ما ليعري تفاصيل الفنان وما يتخلله من شك وتردد.

تبدأ المشكلة الأولى حين تملي الغريزة الفنية الآتي: أن نتقن العمل حتى يصبح نقيًا، بينما يملي علينا واقع الحالة النفسية النقيض: أن نتخلف عن العمل وأن نسلك طرق أسهل; ثم تملي علينا العاطفة أن نحكي عمّا ارتكبناه من أخطاء وما ينهشنا من غضب وأن نحكي عن تلك اللهفة التي تحكمنا بلا رحمة.

تتبعها مشكلة أخرى وهي حقيقة أن الأشخاص سيشهدون هذا العمل وسوف يبنون مختلف الآراء والأحكام والتحاليل عن طبيعة العمل والشخص الذي ابتدعه. سيستنبط الجمهور تفاصيل رغباته الدفينة، وسينجحون في استخلاص عيوب الفنان الشخصية في حالة رغبوا بذلك. ولن يواجهوا صعوبة في ذلك لأن قطع الأحجية متوفرة في طوايا العمل سواء بوعي من الفنان أم بلا.

صناعة الفن لا ترد علينا بالحسن دائمًا; قد ترد علينا بعداء على هيئة انعكاس متشائم يظهر تفاصيل تمنينا أن نخفيها من الوجود، وفي حالة كُبت ذلك الغضب واستحقار الشوائب التي تتخلل الحياة البشرية نصل إما للوقوف التام أو التراجع والانسحاب.

لا يملك الإنسان وسيلة لمحو آثار الندبات السابقة، المخرج الوحيد هو أن تُعامل كجزء من قصة طويلة.



الفن فعل اجتماعي

من أشنع الجرائم الفنية هو السعي لإرضاء توقعات الآخرين. هكذا يرى عالم الفن الفضيلة العظمى، التفرد. من جهة، يسعى الفن المتفرد إلى منع الأطراف الخارجية من التحكم في هيئته. وفي آن واحد، يولد الفن نفسه مختلف الهياكل الاجتماعية من طبقات وتسلسلات هرمية وسيادة أفكار على أخرى.

وُلد الفن كفعل اجتماعي أولًا. ولكن اليوم تخطى تلك العلة الأولية كوسيلة تخاطب، ثم تجرد من فاعليته كأداة اجتماعية وأصبح منفصلًا عن سبب نشأته. وعلى النقيض، مازال الفن مصمم لُيرى، فلا يُعلق الفن في غرف مظلمة أو وراء حاجز يمنع الرؤية.

بينما يسعى البشر ليرى الآخرون ما صنعوا، يترفعون عن استخدام الفن للتحدث مع الناظر بلغة مألوفة.

نتيجة للتناقض الفطري سيستمر التساؤل حول العلة الحديثة لوجود الفن حتى بعد حياة الفنانين الذين يطرحون هذا السؤال اليوم. يتبقى لنا خيار واحد، أن نؤمن بنقطتين تناقض احداهما الأخرى ولا نتمسك بإحدى جوانب النقاش. ثم تتملكنا الرهبة التي تؤدي إلى مخرج وحيد، التصالح مع جدلية الفن والتناقض الذي لا يخلو منه أي حوار.


الفن ليس أصيل

خُصص المركز الأول من صفات الفن لأصالته; أن يستمر الفنانون جيلًا بعد جيل في الابتكار من الفراغ.

وعُرف الابتكار كتفاعل خيمائي يحول الصخر إلى ذهب. فيتبع الفنانون في خطى هذا المعتقد حقبة بعد أخرى ويحاول كل منهم إعادة ابتكار ما هو موجود، فتتعدد التقنيات إلى مالا نهاية منتجة أعمال ومواضيع وقصص تتشابه مع ما سبقها. فيصل الفن لنفس الوجهة لا محالة.

ثم يأتي الخلاص وسط السعي للابتكار ويُغرس الاستيعاب الحتمي: لسنا مضطرين لتحمل عذاب إعادة اختراع العجلة مرارًا وتكرارًا. أقوى أسلحتنا هو استخدام ما يوفره لنا تاريخ الفن في سياقات فنية جديدة تمنحه زاوية من المعنى لم يسبق اكتشافها.

هذا التنقيح لتعريف العمل الفني الأصيل هو عقبة يمر بها الجميع وتبدأ مرحلة التخلص من شرَك الشك بالذات حين نتمسك بمبدأ أن الفن هو عمل مشترك ولا نستطيع فصل عملنا عن التاريخ الذي سبقنا. كل ما نقوى لعمله اليوم هو إيجاد مساحات جديدة لنبث منها ونؤثر فيها.


لا يملك الفنان فنّه

يتبرأ منك الفن عند اول سؤال للعابرين، ويرفض صلته بك تمامًا أمام تعجب المتذوقين، ويصادر منك كجواز مختوم بالشمع الأحمر وترحل لبلاد ليست بلادك ومناطق لم يسبق لك أن قرأت عنها. يتبرأ منك ذلك الفن الذي انتجته بدمك وعرقك.

يصدمك بإهانته لك من قبل المتطفلين. قد يختارون له هوية جديدة غير هويتك الأولى واسم جديد غير اسمك الأول وتعريف جديد يناسب الجيل الجديد وقد تنساه انت أيضا بعد فترة من الزمن حتى وان كان يقف امام عتبة بابك.

لا محالة لنشأة التلاحم ما بين الكبرياء والعمل الفني. يزدهر ويصبح امتدادًا للذات حين يغرس كل فنان تفاصيله الشخصية في جوهر كل خط ولون وضربة فرشاة. ونتوقع ببراءة أن كل ما عملنا من أجله ملك لنا وهو في الواقع يملك آلاف النسخ والتأويلات في فِكر كل من شهده حتى لو بصدفة خاطفة.

يملك الناس قدرة عظيمة في اختراع طرق جديدة مبتكرة قد تكون أو مبتذلة في استهلاك وتفسير الأعمال الفنية، حتى وإن كانت تتناقض مع مقاصد ونوايا الفنان الأولية. وهو أمر يجلب الأسى لكل فنان، لأنه يسلب الفنان مركزه.

كل ما نملكه هو شعور الاستحقاقية فحسب. كل جمهور سيعيد صياغة موضوع العمل إما مثبتًا لمعناه الأصلي أو مجردًا له منه، ولا نملك القدرة على التحكم فيما يراه الآخرون في أعمالنا.


الفن مخيب للآمال! توقعت أن يحولك إلى حر طليق أو تصورت ان يحولك الى راهب حكيم ينصت لك الاشخاص برويه وهدوء وكأنك ستنطق كلمات خلاصهم من الذنب لتكتشف أخيرًا أن لا أحدًا يسمعك; ابتكارك الخاص قد لا يفهمه أحد سوى نفسك.

بقي السؤال هل الفن عمل فردي ام اجتماعي؟ لا يوجد في الفن يقين تام ابدًا.

فريق مخطوطة: فيصل عسيري وإنتصار عسيري

Previous
Previous

مسودة: رهاب وقت القراءة

Next
Next

الجزء الأول: هي وحدها أمام عقلها