تقرير من النافذة
البيت، الدار، المنزل. العِمارة ببابها الأمامي، وهندستها ونوافذها، وجلَبة قاطنيها وصمتهم. إشعاع نوافذها في عتمة الليل، وتسلق الأطفال لها في بهجة النهار. كل ذلك مصدر من مصادر الهوس، ألا نشعر جميعًا بالرغبة المُلحة في النظر خلف الأبواب المؤصدة؟ في كل مرة ننظر عبر نوافذنا، نسمح لخيالنا أن يغوص في ما قد يحدث خلف هذه الجدران، حب وفقد وأسى وموت وإختفاء، كل شعور في كتاب البشرية محفوظ في أربعة جدران ونافذة.
النافذة، محطة إلتقاء العالم الداخلي بالخارجي، مصدرُ إلهامٍ ونميمة. قناة أخبار تذيع قصص الحارة على مدار الساعة. وبهذا أصبحت النافذة جوهرة، في عدمها تصبح الغرف محض خندق لا يطيق الجلوس فيه أكثر الأرواحِ وحشةً، وفي عدمها أصبح الوجود مغلق وخانق.
من خلال النافذة انبسطت أمامي مرتفعات ووديان الحارة، وحملتُ على عاتقي المسؤولية الصحفية، أن اتأمل وأُدوّن تصرفات سكانها المُدهشين.
أقرب المنازل لنافذتي صامتٌ ومظلم، أفراده في حالة انغلاق عن ما يحيط بهم، لم أسمع على مرِّ السنين شغب أو صراخ، أو مراهق متمرد يُدخن من خلال النافذة بوجه ملتصق في حديدها. لكن لفتني والدهم في إحدى الظهيرات، حين خرج والحنق على محياه، فكسّر جرس الباب بثلاث ضربات حاسمة. تأملت زفير الرضى بعد أن أدّى واجبه في حماية منزله من بطش قارع الجرس. أكان يحمي عائلته من دخيل مزعج؟ أم كان يمنعهم من مُنقذ؟ أهو يبحث عن العزلة؟ أم الاختلاء بضحاياه؟ لعله يخشى خسارة مهدِه الذي بناه طوبًا وإسمنت; موقع إطلاق نجمِه. لكن لم تفارقني صورة تخيلتها لقارع باب مستقبلي يقف عند عتبة بابهم بدون جرسٍ يقرعه.
وجدت أن للانتماء البيتوتي نفحة أنانية، في أحيانٍ فردية وفي أحيان أخرى عائلية، الثانية أكثر دقة في حالة جارنا والمطرقة; فالانتماء هو رغبة دفينة في إيجاد موطن مريح ودائم كرمز للثبات الراسي الذي يخوّل الفرد إلى نجاحات كبرى قادمة. حيث يُقال: من هذا المنزل، انطلقَ فُلان لتحقيق أحلامه، وبفضل قوة أصولهِ الراسخة، استطاع أن يطلب المزيد من الحياة. فترتقي جمادات هذا المكان من كراسي وجدران ومرايا إلى محطة إطلاق لإمكانات الفرد الحقيقية، وبهذا رُسم الحلم تكوينًا لموطن الفرد الراغب في المزيد.
فهل وُجد المنزل من أجل خدمتنا الفردية؟ حمايةً لنا من كل ما يدور في العالم الخارجي من استحواذات ومعوقات لرحلتنا. أم هل وُجد لنعيش في وِحدة مع سكانِ حارتنا؟ نقرع أجراس جيراننا كما يقرعون جرسنا، كمجتمع متحدّ. ربما بين هذه العلتيّن؟
استكملت تحرياتي، وعلى صدري بطاقة صحفيّ الحارة. وقفت على عتبة بابنا أعدُّ البيوت، وفي لحظة خاطفة، ضُرب الباب المجاور بدويّ حديديّ رنان، والتفتُّ في فزع. وقف صبيّ أمام الباب، وبدأ يشتم أحدًا من خلال الفولاذ. حُرمة ذلك المنزل دفعتني للانصراف من المشهد، ولكن فضولي تركني واقفًا خلف بابنا، لعلّي اختطف سبب غضبه في حدود الأدب. لم يكن يسكن عِمارةً مُغلقة كجارنا حامِل المطرقة، كان من سكان منزلٍ ذو ابتسامةٍ رائفة، منزل قِدر الضغط. أتقَن من يقطنه مهارة الإخفاء، وتأقلم على خفض ورفع صوته تبعًا لنظامٍ دقيق. حتى ذلك الطفل الغاضب، ستحين لحظة يخرس فيها ويتعلم مهارة تقنين الصوت والإبتسامة.
وصلت في رحلتي الاستكشافية إلى محطة، أبحث فيها عن صورة المنزل المثالي، الموطن، وهل أعيش في موطني؟ وبدأت بخطوة، حول الحارة السعودية الإسمنتية، تصبغها ألوان الصحراء الترابية. واحاتها في سطول الزهور، وفي أشجارها الظليلة التي تحف شوارع ضواحيها يمنة ويسرة. من خلال نوافذ عِماراتها الصلبة، تنبأت عن الجمال والأهمية، والقبح و والقِلّة. إن مُنحت الفرصة لأُدرج نفسي بكل خفة في إحدى هذه المنازل؟ أيها سأختار؟
منازل ذات حُرمة، وبتلك الحُرمة آمنت. وفي آن سمحت لخيالي أن يملأ ثغرات المجهول، يطفو فوق الحقيقة والإدّعاء دون أن يغوص في أيهما. أدرجت نفسي في ثنايا هذه الحارة الدسمةٌ بالإلهامِ والمواضيعِ والقضايا، وبجمالٍ فذٍ متجدد. خِفِيَ سحرُها عن العلن، لن ينتبه لوجوده إلا من أنصت لدبيبها تحت قدميه.
تقفيتُ أثرَ ذلك الدبيب حتى أوصلني إلى منزل جارنا أبو جابر في زاوية الحارة. حيث يطل على الجميع من خلال واجهته المفتوحة، التي لا يهتم كثيرًا بإغلاقها أو إخفاء نوافذها بالأسوار العالية. عُرفوا في حارتنا بأصوات محادثاتهم العالية، والجلبة التي تختفي بمجرد ذهابهم في رحلةٍ أو سفر. لم يعكس منزلهم صورة الثراء الماديّ أو السلام أو الحب الغير مشروط، كنت أرى أطفالهم يتعاركون ويشتمون بعضهم في الشارع كل أسبوع، ولكن رأيت أبو جابر وهو يُقبّل أبناءه على الخد كل صباح، حتى بِكرُه جابر، الذي يبلغ الثامنةَ والعشرين من العمر. رأيته وهو يحتضن ابنته حين اصطدمت بزاويةَ الرصيف حين كان يعلمها القيادة. كانوا مزعجين وغليظين، ولكنهم يعيشون في حالةِ رضا وقبول بالأمور من حولهم، يزرعون النعناع والحبق في سطول الدهانات ليتشاركها معهم الجميع. كان من السهل قبول مايقدمه لك أبو جابر وأهله; عائلةٌ عفوية، لا يقدمون لك شيئًا بنيةٍ خفية. مرورهم في الشارع بلهجتهم الغليظة وشجارهم خلّفَ وراءهم بريق من الانتماء لا أعتقد أني شهدته في منزل آخر.
أقفلت نافذتي أخيرًا. لا أشعر بالحاجة للنظر إليهم لأعرفهم. بمجرد أن أُغمض عينيّ وأُنصت، أستطيع سماع هتافهم، وأتخيل الابتسامة التي لا تفارق وجوههم مع كل صرخة.
أشعر أنك تواجه صعوبة في تخصيص الوقت لمن تُحب